فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومناسبة ذكر ذلك عقب قوله: {اليوم يئسَ} [المائدة: 3] و{اليوم أكملت} [المائدة: 3] أنّ هذا أيضًا منّة كبرى لأنّ إلقاء الأحكام بصفة كلّيّة نعمة في التفقّه في الدين.
والكلام على الطيّبات تقدّم آنفًا، فأعيدَ ليُبنى عليه قوله: {وطعام الذين أتوا الكتاب}.
وعطفُ جملة {وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم} على جملة {اليومَ أحلّ لكم الطيّبات} لأجل ما في هذه الرخصة من المنّة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرّم الله عليهم طعامهم لشقّ ذلك عليهم.
والطعام في كلام العرب ما يطعَمه المرء ويأكله، وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة، أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح.
قال ابن عطية: الطعام الذي لا محاولة فيه كالبُرّ والفاكهة ونحوهما لا يغيّره تملّك أحد له، والطعام الذي تقَع فيه محاولة صنعته لا تعلّق للدين بها كخَبز الدقيق وعصر الزيت.
فهذا إن تُجنِّبَ من الذميّ فعلى جهة التقذّر.
والتذكية هي المحتاجة إلى الدّين والنية، فلمَّا كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمّة وأخرجها عن القياس.
وأراد بالقياس قياس أحوال ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا، ولهذا قال كثير من العلماء: أراد الله هنا بالطعام الذبائح، مع اتّفاقهم على أنّ غيرها من الطعام مباح، ولكن هؤلاء قالوا: إنّ غير الذبائح ليس مرادًا، أي لأنّه ليس موضع تردّد في إباحة أكله.
والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كلّ طعام قد يظن أنَّه محرّم علينا إذ تدخله صنعتهم، وهم لا يتَوَقَّوْنَ ما نتوقّى، وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه.
ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح.
و{الذين أوتوا الكتاب}: هم أتباع التوراة والإنجيل، سواء كانوا ممّن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتّباع الدين، أم كانوا ممّن اتّبعوا الدينيين اختيارًا؛ فإنّ موسى وعيسى ودعَوا بني إسرائيل خاصّة، وقد تهوّد من العرب أهل اليمن، وتنصّر من العرب تغلب، وبهراء، وكلب، ولخم، ونَجران، وبعض ربيعة وغسّان، فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا عليّا بن أبي طالب فإنه قال: لا تحلّ ذبائح نصارى تغلب، وقال: إنّهم لم يتمسّكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر.
وقال القرطبي: هذا قول الشافعي، وروى الربيع عن الشافعي: لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب.
وعن الشافعي: من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمّدية فهو من أهل الكتاب، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلاّ الإسلام، ولا تقبل منه الجزية، أي كالمشركين.
وأمَّا المجوس فليسوا أهل كتاب بالإجماع، فلا تؤكل ذبائحهم، وشذّ من جعلهم أهل كتاب.
وأمَّا المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف.
وحِكمة الرخصة في أهل الكتاب: لأنّهم على دين إلهي يُحرّم الخبَائث، ويتقي النجاسة، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متّبعة لا تظنّ بهم مخالفتها، وهي مستندة للوحي الإلهي، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان.
وأمّا المجوس فلهم كتاب لكنّه ليس بالإلهي، فمنهم أتباع (زَرَادشْت)، لهم كتابُ (الزندفستا) وهؤلاء هم محلّ الخلاف.
وأمّا المجوس (المَانَويَّة) فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان، أو هم شرّ منهم.
وقد قال مالك: ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام يعني إذا كانوا يتّقون النجاسة.
وفي «جامع الترمذي»: أنّ أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس.
فقال له: «أنْقُوها غسلًا واطبخوا فيها» وفي البخاري: أنّ أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آنِيَة أهل الكتاب.
فقال له: «إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثمّ كلوا فيها» قال ابن العربي: «فغسل آنية المجوس فرض، وغسل آنية أهل الكتاب ندب».
يُريد لأنّ الله أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم، وإنَّما يسري الشكّ إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه، ولم يبح لنا طعام المجوس، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين.
ثم الطعامُ الشامل للذكاة إنّما يعتبر طعامًا لهم إذاكانوا يستحلّونه في دينهم، ويأكله أحبارهم وعلماؤهم، ولو كان ممّا ذكر القرآنُ أنَّه حرّمه عليهم، لأنَّهم قد تأوّلوا في دينهم تأويلات، وهذا قول مالك.
وأرى أنّ دليله: أنّ الآية عمّمت طعامهم فكان عمومها دليلًا للمسلمين، ولا التفات إلى ما حكَى الله أنّه حرّمه عليهم ثم أباحه للمسلمين، فكان عموم طعامهم في شرعنا مُباحًا ناسخًا للمحرّم عليهم، ولا نصِيرُ إلى الاحتجاج «بشرع من قبلنا» إلاّ إذا لم يكن لنا دليل على حُكمهِ في شرعنا.
وقيل: لا يؤكل ما علِمْنا تحريمه عليهم بنصّ القرآن، وهو قول بعض أهل العلم، وقيل به في مذهب مالك، والمعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر وغنم اليهود من غير تحريم؛ لأنّ الله ذكر أنه حرّم عليهم الشحوم.
ومن المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب ولا إباحة طعامهم فيما حرّمه الله علينا بعينه: كالخنزير والدم، ولا ما حرّمه علينا بوصفه، الذي ليس بذكاة: كالميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وأكيلة السبع، إذا كانوا هم يستحلّون ذلك، فأمَّا ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفةَ تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محلّ نظر كالمضروبة بمحدّد على رأسها فتموت، والمفتولة العنق فتتمزّق العروق، فقال جمهور العلماء: لا يؤكل.
وقال أبو بكر ابن العربي من المالكية: تؤكل.
وقال في «الأحكام»: فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطْم الرأس فالجواب: أنّ هذه ميتة، وهي حرام بالنصّ، وإن أكلوها فلا نأكلها نحْن، كالخنزير فإنّه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا يريد إباحته عند النصارى ثم قال: ولقد سُئِلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها؛ هل تؤكل معه أو تؤخذ طعامًا منه، فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقًا وكلّ ما يرونه في دينهم فإنّه حلال لنا في ديننا.
وأشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي، وإنّما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم، والأوداج ولو بالخنق، وبين نحو الخنق لحبس النفَس، ورَضّ الرأس وقول ابن العربي شذوذ.
وقوله: {وطعامكم حلّ لهم} لم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة بذكر {وطعامكم حلّ لهم}.
والذي أراه أنّ الله تعالى نبّهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم، فأباح لنا طعامهم، وأباح لنا أن نُطعمهم طعَامنا، فعُلم من هذين الحكمين أنّ علّة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم، وذلك أيضًا تمهيد لقوله بعد: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} لأنّ ذلك يقتضي شدّة المخالطة معهم لتزوّج نسائهم والمصَاهرة معهم. اهـ.

.قال الفخر:

في المحصنات قولان:
أحدهما: أنها الحرائر، والثاني: أنها العفائف، وعلى التقدير الثاني يدخل فيه نكاح الأمة، والقول الأول أولى لوجوه:
أحدها: أنه تعالى قال بعد هذه الآية {إذا آتيتموهن أجورهن} ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيدها، وثانيها: أنا بينا في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] أن نكاح الأمة إنما يحل بشرطين: عدم طول الحرة، وحصول الخوف من العنت، وثالثها: أن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهرًا على تحريم نكاح الزانية، وقد ثبت أنه غير محرم، أما لو حملنا المحصنات على الحرائر يلزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات، ورابعها: أنا بينا أن اشتقاق الإحصان من التحصن، ووصف التحصن في حق الحرة أكثر ثبوتًا منه في حق الأمة لما بينا أن الأمة وإن كانت عفيفة إلاّ أنها لا تخلو من الخروج والبروز والمخالطة مع الناس بخلاف الحرة، فثبت أن تفسير المحصنات بالحرائر أولى من تفسيرها بغيرها. اهـ.

.قال الخازن:

وقيل: إنما خص المحصنات بالذكر وهن الحرائر أو العفائف ليحث المؤمنين على تخير النساء ليكون الولد كريم الأصل من الطرفين. اهـ.

.قال الفخر:

ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من اليهود والنصارى وتمسكوا فيه بهذه الآية، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شركًا أعظم من قولها: إن ربها عيسى، ومن قال بهذا القول أجابوا عن التمسك بقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بوجوه: الأول: أن المراد الذين آمنوا منهم، فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا؟ فبيّن تعالى بهذه الآية جواز ذلك، والثاني: روي عن عطاء أنه قال: إنما رخص الله تعالى في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة، وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة، والثالث: الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار، كقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُم} [آل عمران: 118] ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة ويصير ذلك سببًا لميل الزوج إلى دينها، وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها، وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة.
الرابع: قوله تعالى في خاتمة هذه الآية: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ في الاخرة مِنَ الخاسرين} وهذا من أعظم المنفرات عن التزوج بالكافرة، فلو كان المراد بقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآية عقيبها كالتناقض وهو غير جائز. اهـ.

.قال الثعلبي:

{والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ}
اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها، فقال قوم: عنى بالإحصان في هذه الآية الحرية وأجازوا نكاح كل حرّة، مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يتزوجهن المسلم بحال، وهذا قول مجاهد وأكثر الفقهاء، والدليل عليه قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25] الآية، فشرط في نكاح الإماء الإيمان.
وقال آخرون: إنما عنى اللّه تعالى بالمحصنات في هذه الآية العفائف من الفريقين إماءً كنّ أو حرائر، فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب بهذه الآية، وحرّموا البغايا من المؤمنات والكتابيات، وهذا قول أبي ميسرة والسّدي.
وقال الشعبي: إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة، وتحصن فرجها.
وقال الحسن: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها، ثم اختلفوا في الآية أهي عامة أم خاصة. فقال بعضهم: هي عامة في جميع الكتابيات حربيّة كانت أو ذميّة، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن.
وقال بعضهم: هي الذميّات، فإما الحربيات فإنّ نساءهم حرام على المسلمين، وهو قول ابن عباس.
السدّي عن الحكم عن مقسم عنه قال: من نساء أهل الكتاب من تحلّ لنا ومنهم من لا تحل لنا، ثم قرأ: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ...} إلى قوله: {صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤه ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.
قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويفسر هذه الآية بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] يقول: لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى.
وروى المبارك عن سليمان بن المغيرة قال: سأل رجل الحسن: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات: فإن كان لابد فاعلا فليعمد إليها حصانًا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة، قال: هي التي إذا ألمح الرجل إليها بعينه أتبعته. اهـ.